| 0 التعليقات ]

استدلالات أصولية في إثبات جواز الإضرابات والاعتصامات والمهرجانات الخطابية والمسيرات السلمية

كتبه الشيخ الدكتور عبد الرزاق خليفة الشايجي
الحمد لله وكفى، وصلاة وسلامًا على عباده الذين اصطفى.. اللَّهُمَّ رَبَّ جَبْرَائِيلَ وَمِيكَائِيلَ وَإِسْرَافِيلَ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ اهْدِنِي لِمَا اخْتُلِفَ فِيهِ مِنِ الْحَقِّ بِإِذْنِكَ إِنَّكَ تَهْدِي مَنْ تَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ..وبعد:فهذه مسالك أصولية في إثبات إباحة المسيرات السلمية..والإضرابات، والاعتصامات، والمهرجانات الخطابية، أو مشروعيتها، نطرحها على بساط البحث والمناقشة.
أولاً: من المقرر في أصول الفقه أن 'الأصل في العادات والأشياء الحِل والإباحة، ولا ينقل عن هذا الأصل إلا بناقل صحيح سالم من معارضٍ يساويه أو يرجح عنه' [انظر روضة الناظر [ص/389] وما بعدها]: وذلك لأن الأمور التي لم ينص الشارع على تحريمها إذا كان الانتفاع بها واستعمالها خاليًا من المفسدة الأعظم منه والمساوية له عادةً؛ فإن العقل يدعو إلى استعمالها، والانتفاع بها، والشرع يؤيد هذا؛ لقوله تعالى منكرًًا تحريم ما لم يرد نص بتحريمه: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ ...[32]} [سورة الأعراف]. ولذا فقد جعل أئمتنا الذين كتبوا في 'قواعد الفقه' هذا الأصل قاعدة من قواعد الفقه الإسلامي، يُعرف بها حكم الأمور التي لم يرد بحكمها نص شرعي:
قال السيوطي في 'الأشباه والنظائر': 'قَاعِدَة: الأَصْلُ فِي الأَشْيَاءِ الإِبَاحَةُ حَتَّى يَدُلُّ الدَّلِيلُ عَلَى التَّحْرِيمِ' [الأشباه والنظائر [ص/60]. وقال الشيخ السعدي:
وَالأَصْلُ فِي عَادَاتِنَا الإِبَاحَة *** حَتَّى يَجِيءَ صَارِفُ الإِبَاحَة
وقال أيضًا:
وَسَائِلُ الأُمُورِ كَالْمَقَاصِدِ*** وَاحْكُمْ بِهَذَا الْحُكْمِ لِلزَّوَائِدِ
رسالة القواعد [ص/30]

وكذلك قال ابن القيم: 'لَمَّا كَانَتِ الْمَقَاصِدُ لا يُتَوَصَّلُ إلَيْهَا إلاَّ بِأَسْبَابٍ وَطُرُقٍ تُفْضِي إلَيْهَا كَانَتْ طُرُقُهَا وَأَسْبَابُهَا تَابِعَةً لَهَا مُعْتَبَرَةً بِهَا, فَوَسَائِلُ الْمُحَرَّمَاتِ وَالْمَعَاصِي فِي كَرَاهَتِهَا وَالْمَنْعِ مِنْهَا بِحَسَبِ إفْضَائِهَا إلَى غَايَاتِهَا وَارْتِبَاطَاتِهَا بِهَا, وَوَسَائِلُ الطَّاعَاتِ وَالْقُرُبَاتِ فِي مَحَبَّتِهَا وَالإِذْنِ فِيهَا بِحَسَبِ إفْضَائِهَا إلَى غَايَتِهَا' [إعلام الموقعين 2/148].
ولما كانت هذه الوسائل السلمية 'الإضرابات، الاعتصامات، المسيرات السلمية، المهرجانات الخطابية' هي:
ـ من قبيل العادات والتصرفات، وليست من قبيل العبادات.
ـ ولم يرد دليل شرعي يمنع منها؛ فإن الأصل في استخدامها الحِل والإباحة، وعلى المخالف الإتيان بدليل على التحريم.
فإن قيل:'كل ما عندكم عدم العلم بورود الدليل المانع من هذه الأمور وعدم العلم ليس بحجة فليس مجرد عدم الدليل دليلاً على العدم، وبالتالي لا يكون مجرد عدم العلم بورود الدليل المانع دليلاً على جواز المدعي'.
قلنا: لو وجد دليل على المنع لنقل إلينا، وانتشر بيننا، ولم يخف على جميع الأمة، فلما لم يظهر هذا الدليل ـ مع الاطلاع، والاستقصاء، وشدة البحث ـ ؛ غلب على الظن عدم وجوده، فنزل هذا الظن منزلة العلم في وجوب العلم به؛ لأنه ظن مستند إلى تحرٍ وبحثٍ واجتهادٍ. فهذا 'علمٌ بعدم الدليل لا عدم العلم بالدليل'، وإن كان الثاني؛ فليس حجة فالأول حجة [انظر روضة الناظر 1/389 وما بعدها] فعدم ورود الدليل المانع دليل على الإباحة لأنها الأصل، وهذا الاستدلال متفرع عن القاعدة الكلية الكبرى: 'اليقين لا يزول بالشك'.
ثانيًا: من منع الأخذ بهذه الوسائل السلمية، أو قال بتحريمها مطلقًا؛ فقد خالف الأصل وهو الحِل: فلابد من أن يأتي بدليل معتبر راجح، يقوى على إزالة الأصل وهو الحل، وعندها تسلم دعواه؛ لأنه لا يجوز مخالفة الأصل إلا بدليل.
ـ أما أن يقال بالتحريم بمجرد الرأي والهوى دون موازنة أهل الحل والعقد بين المصالح والمفاسد المترتبة على مثل هذه الوسائل؛ فهذا من قبيل الحكم في دين الله بالتشهي، وهو من القول على الله بغير علم، والقول على الله بغير علمٍ أشد أنواع المحرمات؛ لقوله تعالى:{قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ[33]} [سورة الأعراف].
ثالثًا: إن الذين يخرِّجُّوُن من قال بجواز مثل هذه الوسائل عن منهج السلف يطلقون الحكم بتحريم هذه الوسائل دون تفصيل أو تقييد، بل يجعلون الأصل في الأشياء عند عدم ورود الدليل هو التحريم: وهو قول مرجوح لم يذهب إليه إلا معتزلة بغداد، وبعض قليل من غيرهم ومستندهم واهٍ [الأدلة المختلف فيها [ص/7] وما بعدها]. فقولهم مخالف للقواعد الفقهية الشرعية، فإن الأصل في الأشياء ـ ومنها هذه الوسائل ـ الحِل والإباحة ما لم يرد دليل عل تحريمها، وهذه الوسائل لم يرد دليل بتحريمها بل لا نبعد عن الصواب إن قلنا: إنها قد ورد الأمر بها حيث قد ورد الأمر بإنكار المنكر كما سنذكر بعد قليل، والوسائل المذكورة إذا ترجحت مصالحها؛ شرع الأخذ بها في مجال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لاسيما مع إباحة أصلها، فتكون من قبيل الوسائل التي تأخذ أحكام المقاصد، والمقصد هاهنا شرعي جليل، فكانت الوسائل المفضية إليه بنحو حكمه.
رابعًا: وعمدة ما يستدل به المانعون هو: دعوى رجحان المفاسد الكبيرة المترتبة على اتخاذ مثل هذه الوسائل: ونحن نسلم الدعوى، لو فُرض صحة وصفها وما يترتب عليها، ولكن الحقيقة أن هذا غير مسلّم، فإنه إذا تقرر:'أن الأصل في هذه الوسائل الحِل'، فإننا بعد ذلك ننظر إلى واقعها، وما يترتب عليها من المصالح والمفاسد ـ على معنى الانتقال من الإباحة إلى التحريم يكون بأدنى الأسباب ـ وبناءً عليه يتحدد حكم مثل هذه الوسائل السلمية.
ـ ومن المعلوم أن كثيرًا من هذه 'الإضرابات ـ الاعتصامات ـ المسيرات السلمية ـ المهرجانات الخطابية' إنما هي إمساك بحق عن عمل، أو إيصال كلمة حق، أو مطالبة بحق شرعي كنوع من أنواع الضغط السلمي لتغيير منكر، أو تحقيق شيء من المعروف، تحققت مصلحته، ويترتب على ذلك خير كثير، فلا بد من موازنة بين هذه المفاسد المشار إليها وبين المصالح المترتبة على ذلك.
خامسًا: لو سلمنا بوجود 'مفاسد جزئية' عند استخدام مثل هذه الوسائل، فإن هذه المفاسد قد تسوغ وتحتمل في مقابلة دفع مفاسد أعظم منها وأخطر: عملاً بقاعدة: 'جواز ارتكاب أخف المفسدتين لدفع أعلاهما'، فهذا في تعارض المفاسد، وكذلك القول حال وجود مفاسد جزئية في مقابلة المصالح العامة الغالبة، فإن التحقيق في مثل هذه الحالة:'احتمال تلك المفاسد المرجوحة لتحصيل المصالح الراجحة' وبهذا جاء نظام الشريعة، ومورد الأحكام، فشريعة الله قائمة على مراعاة مصالح العباد، بمعنى: أنها تقضي بتقديم الأهم من المصالح على ما هو دونه، كما تقضي أيضًا بالتزام المفسدة الدنيا لاتقاء المفسدة الكبرى، وذلك حين تتعارض المصالح والمفاسد، أو مفسدتان في شيء واحد.
ـ هذا هو المراد بمراعاة المصالح وهو المراد أيضًا من قاعدة:'درء المفاسد مقدم على جلب المصالح' إذ إن معناه: أن درء المفسدة مقدم على جلب المصلحة المساوية، أو التي هي دون المفسدة وهو ما يعبر عنه الأصوليون بعنوان: 'انخرام المناسبة بالمفسدة المساوية أو الراجحة' [الموافقات [2/360] وما بعدها].
ـ وأما إطلاق: 'تقديم درء المفاسد على جلب المصالح' ففيه بعد عن تحرير الصواب، وعليه: فإن إطلاق القول بالتحريم قول بعيد عن التحقيق أصلاً، وشرعًا، وواقعًا.
سادسًا: في 'الصحيحين' عن أبي سعيد الخدري مرفوعًا: [مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ وَذَلِكَ أَضْعَفُ الإِيمَانِ].
فتغيير المنكر واجب بحسب ما يتيسر من الوسائل الشرعية التي جاء الحديث بوضع أصولها، فإذا كان 'الاعتصام، الإضراب، المسيرة السلمية، المهرجان الخطابي' وسيلة مؤدية إلى إنكار المنكر بطريق القول، أو بالفعل، ولا مفاسد راجحة في مقابل ذلك؛ فما المانع الشرعي من استعمال هذه الوسيلة، بل نحن نقول: إن هذه الوسائل تأخذ أحكام المقاصد فقد يكون 'الاعتصام، الإضراب، المسيرة السلمية، المهرجان الخطابي' مستحبًا، بل قد يجب أحيانًا، مادام أنها تحقق مقصود الشرع بلا مفاسد راجحة.
سابعًا: وأما دعوى أن في اتخاذ مثل هذه الوسائل السلمية مخالفة لولي الأمر وعملاً على شق الصف، وإيذانًا بالخروج على حكام المسلمين: فهذه من العبارات الخطيرة التي لا ينبغي أن تلقى جزافًا، والتي لا يدرك أصحابها حقيقة معناها شرعًا وعرفًا؛ ذلك أن عامتهم مقلدة نقلة بلا تحرٍّ، إذ باجتماع كلمة 'أهل الحل والعقد' على ذلك تنتفي مفسدة احتمال شق الصف.
ـ ومما ينبغي أن يُعلم أن الاعتصام، أو الإضراب، أو المسيرة السلمية، أو المهرجان الخطابي؛ يعد في بعض البلاد جريمة يعاقب عليها النظام العام، ولا يأذن بها ولاة الأمور. في حين أنها في بلاد أخرى يسندها النظام العام ويؤيدها القانون، ويأذن بها ولاة الأمور، بل وقد تتولى السلطات المختصة تنظيم مثل هذه الوسائل السلمية في الزمان والمكان كما تأذن بالدعوة إليها .. . إلخ.
والسبب في ذلك: أن الوعي السياسي والنقابي في مثل هذه البلاد يكفل حرية التعبير عن الرأي المخالف، لاسيما إن كانت مطالب عادية، فردية أو جماعية.

ثامنًا: ضوابط ومحاذير شرعية: وحتى تكون الوسائل المذكورة مطابقة لأحكام الشريعة الإسلامية ومقاصدها العامة، فلابد من مراعاة الضوابط الآتية:
أن تكون المطالب والغايات والمقاصد المشروعة شرعًا وعادلة عرفًا، فإن تضمنت محظورًا؛ منعت الوسيلة تبعًا للغاية.
أن لا تؤدي الوسيلة إلى منكر يعادل المراد تغييره، أو يربو عليه، بل لابد أن يكون التغيير إلى منكر أخف وأصغر.
أن لا يصاحب الوسيلة ترك واجب كالصلاة والجمعة، أو فعل محرم كانتهاك الحرمات، أو الصدام الدموي، أو إتلاف المرافق العامة والملكيات الخاصة، أو الإضرار مطلقًا، وكذا اختلاط الرجال بالنساء، أو التلفظ بالألفاظ البذيئة، والعبارات غير المشروعة. وختامًا .. فهذه مناقشة علمية في إثبات جواز، أو مشروعية استخدام بعض الوسائل الحديثة في سبيل تحقيق مطالب شرعية عادلة، وغايات نزيهة، تم عرضها بشكل تأصيلي مبني على الدليل والتقعيد، لنصل في نهاية المطاف إلى أن:'أقل ما يقال فيها أنها مسائل اجتهادية يسع فيها الخلاف' بل قرر فقهاؤنا قاعدة: 'لا إنكار في مسائل الخلاف' ليرسموا لنا منهجًا راقيًا في أدب الخلاف والحوار العلمي، على أن المخالف متى ما جاء في الاستدلال على منع هذه الوسائل باستدلالات مناظرة لما ذكرنا، فإنه محل تقدير وإجلال، وما قررنا في الاستدلال صواب يحتمل الخطأ، ومذهب المخالف خطأ يحتمل الصواب، والله أعلم. قال تعالى:{وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ[116]} [سورة النحل].
تاسعًا: وخلاصة القول في هذه المسألة: 'أن تُطبق القاعدة الدعوية القائلة: إن الإنكار في المنكرات العامة، ولاسيما المدعومة بقوة السلطان، يُترك أمر تقديرها والحكم فيها لأهل الحل والعقد في كل مجتمع': إذ أنه ما يجوز في مجتمعٍ ما قد لا يجوز في مجتمعٍ آخر، ولا يصح انفراد فردٍ أو طائفةٍ منهم بالقرار فيها، وذلك لأنها أمور تتعلق بعامة المسلمين، وآثارها تعود على جميعهم سلبًا أو إيجابًا، فلا يصح أن تنفرد بها مجموعة أفراد أو فرد. ـ وعلى مجموعة أهل الحل والعقد في كل بلد: أن توازن فيها بين المصالح المتوقعة، والمفاسد المتوقع ترتبها على فعلها، فإن غلبت المصلحة في ذلك؛ جاز فعلها، وإن غلبت المفسدة في نظرهم؛ لم يجز فعلها. ـ وبهذا القيد وحده يمكن أن يتحقق إنكار المنكرات العامة المدعومة، ويجنّب الناس الفتن والتفرق والاختلاف فيها .. كما هو واقع مشاهد في كثير من بلاد المسلمين، حيث تدور الدائرة عليهم في النهاية غالبًا. ـ ومن هنا.. كانت الأولوية الدعوية: العمل على إيجاد مجموعة أهل الحل والعقد لكل قطر تقوم بمثل هذه الموازنات وتتخذ مثل هذه القرارات: 'وما رآه المسلمون حسنًا فهو عند الله حسن' فهم ينظرون فيها من حيث الحكم، ومن حيث القدرة عليها.

0 التعليقات

إرسال تعليق