تمـهيـد
في بيان أن تحكيم الشريعة الإسلامية في جميع شؤون الحياة من أصل الدين وأساس عقيدة التوحيد:
في أواخر عهد الخلافة العثمانية صدر قانون التجارة عام 1850 م ، نقلاً عن القانون الفرنسي ، فكانت أول نقطة تراجع للشريعة الإسلامية في عقر دار الإسلام ، ثم أعقب ذلك – وثم للتراخي – مرحلـة نشاط الخديوي إسماعيــل على إثر أولى محاولات تغريب مصر على يد محمد على وأبنائه ، نشاط الخديوي في إحلال القوانين الوضعية محل التشريعات الإسلامية ، ثم تتابعت بعد ذلك مؤامرات تنحية الشريعة الإسلامية شيئاً فشيئاً تزحف على بلاد الإسلام .
وفي أواخر القرن الثالث عشر الهجري وأوائل القرن الرابع عشــر الهجري ، ثم ما بعده انفرط العقد فتناثرت حباته ، ونقضت عروة الحكم في بلاد الإسلام ، وهي أول عرى الإسلام تنقض ، كما صح في الحديث المرفــوع ، ( تنقض عرى الإسلام عروة عروة فأولها نقضا الحكم وآخرها الصلاة ) .
ومنذ ذلك الحين والأصوات الصادقة لا تكف عن المطالبة بضرورة العودة إلى تحكيم الشريعة الإسلامية ، وأنها ضرورة لا تحتمل التأخير ولا التهاون و التأجيل.
انطلقت هذه الصيحات من إيمانها بأن الحكم بما أنزل الله تعالى من مقتضى الشهادتين اللتين هما عنوان هذا الدين ، ومن أصل التوحيد الذي يقوم عليه كل دين الإسلام ، ولهذا جعل الله تعالى التحاكم إلى غيره عبادة للطاغوت ، كما قال الحق سبحانه : ( أَلَمْ تَرَ إلى اْلَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ ءَامَنُواْ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ ومَاَ أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلى اْلطَّاغُوتِ وَقَدْ أْمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ اْلشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلال بَعِيداً ) وجعل الإشراك به في حكمه من الشرك بالله تعالى ، قال تعالى : ( وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً ) وقرئ ( ولا تُشْرِك في حُكْمِهِ أحداً ) ، وجعل الصدود عن حكم الله من أخص صفات المنافقين كما قال : ( وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَآ أَنزَلَ اللهُ وَإِلَى اْلرَّسُولِ رَأَيْتَ المُنَافِقِينَ يَصُدُونَ عَنكَ صُدُوداً ) ، ونفي الإيمان عمن لا يحكم ما جاء به الرسول في كل شيء كما قال : ( فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكَّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُـمْ ثُمَّ لا يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً ) وسمى الحاكم بغير ما أنزل الله تعالى كافراً وظالماً وفاسِقاً ، قال تعالى : ( وَمَن لَمْ يَحْكُـم بِمَآ أَنزَلَ اللهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الكَافِرُونَ ) وإنما نزلت في اليهود الذين وضعوا تشريعا واحداً بدل حكم الله تعالى ، وهم يعلمون أنهم وضعوه من عند أنفسهم لا من عند الله ، فكيف بمن وضع تشريعاً عاماً وهو يقر أنه اتبع فيه الكفرة الملاحدة أعداء الرسل دون ما أنزل الله تعالى ، وإذا كان الله تعالى قد جعل تغيير حكمه في الأشهر الحرم زيادة في الكفر كما قال تعالى : ( إِنَّمَا النَّسِئُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ ) وقد كان في إرجاء أهل الجاهلية الشهر الحرام وإبداله بالحل ليقاتلوا عدوهم فيه ، إذ كانوا يحرمون القتال في الأشهر الحرم تعظيماً لها ، فسمّى الله فعلهم هذا في تغيير وإرجاء حكم الله تعالى في الشهر الحرام ، زيادة في الكفر ، فكيف بمن أرجأ الشريعة كُلها أو جُلها ، وأحل محلها قوانين الكفرة الملاحدة أعداء الرسل والدين ، فإلى أي مدى تبلغ زيادة كفره إذن .
غير أن هذه الأصوات لم تصل إلا إلى شيء واحد فحسب ، هو أن تبقى على ذلك النص التقليدي الذي تصدر بعض دساتير الدول العربية ( دين الدولة الإسلام ، والشريعة الإسلامية مصدر رئيسي للتشريع ) ، وهو كما قال عبد الحميد متولي متهكماً : ( إن هذا النص لا يترتب عليه أي التزام بتحكيم الشريعة وإنما هو بمثابة تحية كريمة للعقيدة الدينية التي تدين بها الأغلبية أو كفارة تقدمها الدولة لعدم التزام أحكام الشريعة في تشريعاتها (.
ولا ريب أن هذا النص ما هو إلا أحد الأمثلة على ضروب التناقض التي تعيشها الأمة الإسلامية التي ضلت طريق الهدى بعد نبذ كتاب الله تعالى وأحكامه ، ويعكس مدى الحيرة والتيه الذي صارت إليه .
ذلك أن معنى الدين هو الخضوع بالطاعة والانقياد ، ومعنى الإسلام الاستسلام لله تعالى ورأس ذلك التسليم لأحكامه كلها بلا استثناء ، قال تعالى : ( إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ) ، وقال تعالى : ( أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُوُنَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَآءُ مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلا خِزْيٌ فِي اْلْحَيَاةِ اْلدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ) .
وكما قال تعالى : ( قُلْ أَعُوذُ بِرَبِ النَّاسِ مَلِكِ اْلنَّاس إِلَهِ اْلنَّاس )ِ، فالرب هو الذي يخلق وينعم ، والملك هو الذي يأمر وينهى ويحكم ، والإله هو المعبود ، فمن أكمل هذه المقامات الثلاثة أتم دين الإسلام كما قال ابن القيم رحمه الله تعالى : ( وهذه المقامات الثلاث هي أركان التوحيد : أن لا يتخذ سواه رباً ، ولا إلهـاً ، ولا غيره حكماً ) ( مدارج السالكين 2 / 190 ) .
فالإيمان بالله تعالى والإقرار بدين الإسلام يقتضي ضرورة التحاكم إليه وحده دون سواه ، ومع هذا كله ، فقد صار هذا النص منقوضاً بنفس الدساتير التي تصدره فإنّا لله وإنا إليه راجعون .
العودة إلى الشريعة الإسلامية تقوم على أمرين :
ولا بد إذا أردنا عودة صادقة للشريعة الإسلامية أن نقيم هذا المشروع على أمرين :
والسبب في كون أحكام الشريعة لم توضع في مثل صورة القانون الوضعي ، أعني من جهة وضوح التفاصيـــل المناسبة للمستجدات العصرية وبلغتها ، هو تعطيلها بل محاربتها ، فتباطأت عملية تطوير وسائل تيسير تداولها نظرياً وعملياً ، ولهذا تجدها في كثير من النواحي ، قد بقيت في صنعتها وصيغها ومصطلحاتها الخاصة ، وقد تتطلب جهداً لفهمها .
ومن هنا فقد أخطأ خطأً عظيماً من رجال القانون من وصف بعض النواحي في الفقه الإسلامي ، مثــل القانون العام في الشريعة الإسلامية أنه في ( عهد الطفولة ) كما قال عبد الرزاق السنهوري ، ويتردد هذا القول الخاطئ المبني على عدم فهم لطبيعة الفقه الإسلامي ، يتردد بين كثير من المفكرين المتأثرين بالقانون الوضعي .
وهؤلاء يفقدون الموضوعية في منهجية البحث ، عندما يزيحون عامل إبعاد الشريعة الإسلامية عن التطبيق الواقعي مما أبقى خطاباتها العامة ولغتها بعيدة عن فهمهم هُمْ لقصور فيهم ، لا لقصور في الفقه الإسلامي ، ومما أبقى كثيراً من تفاصيل الحياة العصرية المعقدة مدلولاً عليها بالقواعد الكلية للشريعة ، أو بعموم نصوص أو قياس على أشباه ونظائر غير متداولة في هذا العصر ، وهم أمر لا يفهمه إلا الخواص من العلماء .
ولم يمكن – بسبب تعطيلها ومحاربتها – من تيسير ذكرها مفصلة فروعها بوضوح وفي متناول الدارسين ، ولو كان الفقه الإسلامي يطبق في واقع الحياة وسمح له بأن يتطور من جهة وسائله وإلحاق تفاصيلــه بكلياته ، ويعتني به شرحاً وإيضاحاً وتسهيلاً وتقريباً فِي جوانبه المدنية والجزائية والقانون العام ونحوها ، لصار بحيث من العار أن يقارن به قانون آخر أصلاً ، وهو أيضا في أصله لا يقارن به قانون وضعي ، لأنه من عند الله تعالى العليم الخبير ، هذا مع أنه قد نشطت في الآونة الأخيرة لجان كثيرة عالمية ومحلية للعناية بهذا الأمر ، ونشير هنا إلى جهود مشكورة في هذا المجال المهم للجنة استكمال تطبيق أحكام الشريعة في الكويت .
الأمر الثاني : الذي يقوم عليه مشروع إعادة تحكيم الشريعة – هو : إيمان الحكام بضرورة الشريعة الإسلامية ، وأنها ضرورة عُظمى ، وأنها هي رمز الاعتزاز بهوية الأمة وتميزها ، وأن تركها ليس معه فلاح لهذه الأمة أبداً ، بل ستبقى في التخلف وراء الأمم كما قال تعالى :( ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الأَمْرِ فَاْتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَآءَ اْلَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ ) .
0 التعليقات
إرسال تعليق