الشبهة الثالثة
قال المانعون للمظاهرات : التظاهر يعتبر خروجا على الحكام وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من الخروج عليهم .
والرد على هذا الكلام من عدة وجوه :
الوجه الأول :
أن الخروج على الحاكم له في الشرع صورة واحدة وهي حمل السلاح عليه وقتاله من أجل إسقاطه وانتزاع الحكم منه .
أما الضغط على الحاكم بطريقة سلمية كالمظاهرات من أجل التخلي عن الحكم فلا يعتبر خروجا على الحاكم بل هو مطالبة بالتنحي وهذه المطالبة مشروعة إذا كان لها أسباب وموجبات، ومن حق الأمة عزل الحاكم إذا ظهر فيه انعدام الأهلية .
ثم إن المظاهرات غير محصورة في المطالبة بإسقاط النظام بل قد تكون من أجل ما دون ذلك من قضايا مثل تحسين المعيشة أو الإفراج عن السجناء المظلومين ونحو ذلك .
وفي هذه الحالة فلا معنى لاعتبار المظاهرات خروجا على الحاكم .
الوجه الثاني :
أن هؤلاء الحكام لا يعتبرون من الناحية الشرعية أئمة حتى يكون الخروج عليهم ممنوعا.
وليس كل رئيس عصابة يسيطر على الشعب بقوة السلاح يسمى ولي أمر، فالإمامة لها شروط وواجبات ..
وقد أشار النووي في الروضة إلى شروط الإمامة فقال :
(أن يكون الإمام: مكلّفاً، مسلماً عدلاً حرّاً ذكراً، عالماً مجتهداً، شجاعاً ذا رأي وكفاية، سميعاً بصيراً، ناطقاً قرشيّاً) [روضة الطالبين: 10/42].
وقال القاضي عيّاض: (لا تنعقد الإمامة لفاسق ابتداءً)
وإذا اعترض البعض بأن العلماء ذكروا بأن الإمامة تنعقد للمتغلب ..فالجواب أنهم ذهبوا إلى هذا القول تحقيقا لمصلحة الوفاق ودفعا لمفسدة الشقاق ..
أي أن المتغلب يستمد شرعيته من كون المصلحة في بقائه في الحكم .
ولا تتحقق هذه المصلحة إلا إذا كان المتغلب قائما بواجبات الإمامة والضروريات من حقوق الرعية .
أما أن يكون الحاكم متغلبا وفي الوقت نفسه عاجزا أو ممتنعا من أداء حقوق الرعية فمعنى ذلك أنه لا مصلحة في بقائه في الحكم وبالتالي لا شرعية له لأنه إذا زال السبب زال المسبب .
ولهذا قال ابن الوزير :
(فإنّه روى عن الفقهاء أنّهم اشترطوا في طاعة المتغلّب إقامة الجمعات والأعياد، والجهاد، وإنصاف المظلوم غالباً ) [الروض الباسم لابن الوزير - (1 / 53)].
الوجه الثالث :
أن منع الخروج على الحاكم ليس مطلقا بل يكون ممنوعا إذا كان الإمام عدلا مستكملا لشروط الإمامة .
ويكون مشروعا إذا كان الإمام مرتكبا لسبب من الأسباب المبيحة للخروج عليه ..
وقد بينت بعض هذه الاسباب في رسالة "الانتصار للسجناء الابرار في فتنة الحار" وأنقله هنا لتمام الفائدة :
( إن النصوص الشرعية قيدت وجوب السمع والطاعة للإمام بتطبيق شرع الله .
ولهذا قال عليه الصلاة والسلام : (إن أمر عليكم عبد أسود مجدع يقودكم بكتاب الله فاسمعوا له وأطيعوا) فقيد وجوب طاعته بكونه يقود بكتاب الله .
وهذا القيد المذكور ورد في روايات: مسلم وأحمد وأبي عوانة والنسائي وابن حبان والطبراني في المعجم الأوسط .
والروايات التي لم يرد فيها هذا القيد يتعين حملها على هذه المقيدة لما علم من وجوب حمل المطلق على المقيد .
ومن ذلك تقييده صلى الله عليه وسلم لحرمة الخروج على أئمة قريش باستمرارهم على إقامة الدين :
فقد روى الإمام البخاري في صحيحه عن معاوية : قال :سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إن هذا الأمر في قريش لا يعاديهم أحد إلا كبه الله على وجهه ما أقاموا الدين .
وإذا كانت حرمة الخروج مشروطة بإقامة الدين بالنسبة لأئمة قريش الذين هم أشرف الأئمة فمن دونهم أولى .
ومن ذلك أيضا تقييده صلى الله عليه وسلم لحرمة الخروج على الأئمة بإقامة الصلاة :
فقد روى مسلم في صحيحه عن عوف بن مالك :
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم ويصلون عليكم وتصلون عليهم، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم وتلعنونهم ويلعنونكم، قيل يا رسول الله أفلا ننابذهم بالسيف؟ قال : لا ما أقاموا فيكم الصلاة .
فدلت هذه الروايات كلها على ثلاث قيود لحرمة الخروج على الإمام هي :
- كونه يقود الناس بكتاب الله (أي يحكم بكتاب الله).
- كونه مقيما للدين .
- كونه مقيما للصلاة .
والقيد الرابع كونه لم يخرج من دائرة الإسلام وقد نص عليه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله فيما رواه البخاري وغيره عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال :
(دعانا النبي صلى الله عليه وسلم فبايعناه فقال فيما أخذ علينا أن بايعنا على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا وعسرنا ويسرنا وأثرة علينا وأن لا ننازع الأمر أهله إلا أن تروا كفرا بواحا عندكم من الله فيه برهان ).
واعلم أن هذه الشروط الأربع لمنع الخروج على الإمام هي من قبيل الشرط على البدل الذي يعني أنه يكفي وجود أحد الشروط لتحقق المشروط كقولك إن قام زيد أو خرج فأعطه الثوب فإنه يستوجب إعطاء الثوب بأحد الأمرين ولا يشترط توفر الشرطين، وإلى هذا أشار في " المراقي " بقوله :
وما على البدل قد تعلقا | فبحصول واحد تحققا |
فمشروعية الخروج على الإمام حاصلة بانتفاء أحد القيود السابقة :
الحكم بكتاب الله أو إقامة الدين أو إقامة الصلاة أو عدم الخروج من الإسلام .) اهـ.
فهذه أربعة أسباب ذكرتها هناك تبيح الخروج على الحاكم وأزيد هنا سببا خامسا فأقول:
يشترط لحرمة الخروج على الحاكم كون المفاسد المترتبة على الخروج عليه أعظم من مفسدة بقائه في الحكم ..
فإذا حدث العكس وظهر أن في الخروج عليه مصلحة أعظم من المفسدة المترتبة على ذلك فقد تقرر في الأصول أن المصلحة الراجحة تقدم على المفسدة المرجوحة، كما قال في مراقي السعود :
.......................*** وألغ إن يك الفساد أبعدا
أو رجح الإصلاح كالأسارا *** تفدى بما ينفع للنصارا
وانظر تدلي دولي العنب *** في كل مشرق وكل مغرب
وقد نص على هذه المسالة الجويني في غياث الأمم فقال متحدثا عن الخروج على السلطان :
(فأما إذا تواصل منه العصيان وفشا منه العدوان وظهر الفساد وزال السداد وتعطلت الحقوق والحدود وارتفعت الصيانة ووضحت الخيانة واستجرأ الظلمة ولم يجد المظلوم منتصفا ممن ظلمه وتداعى الخلل والخطل إلى عظائم الأمور وتعطل الثغور فلا بد من استدراك هذا الأمر المتفاقم على ما سنقرر القول فيه على الفاهم إن شاء الله عز وجل وذلك أن الإمامة إنما تعني لنقيض هذه الحالة فإذا أفضى الأمر إلى خلاف ما تقتضيه الزعامة والإيالة فيجب استدراكه لا محالة وترك الناس سدى ملتطمين مقتحمين لا جامع لهم على الحق والباطل أجدى عليهم من تقريرهم اتباع من هو عون الظالمين وملاذ الغاشين وموئل الهاجمين ومعتصم المارقين الناجمين) [غياث الأمم - (1 / 80)].
وقال ابن الوزير :
(منع الخروج على الظّلمة استثنى من ذلك من فحش ظلمه، وعظمت المفسدة بولايته، مثل: يزيد بن معاوية، والحجّاج بن يوسف ) [الروض الباسم لابن الوزير - (1 / 51)].
وقال أيضا :
(ولا حرّموا الخروج عليه إلا إذا غلب على الظّنّ أنّ المفسدة في الخروج عليه أعظم من مفسدة ولايته، وقد أجمع العقلاء، وأطبق أهل الرّأي على وجوب احتمال المضرّة الخفيفة متى كانت دافعة لما هو أعظم منها، ولذلك وجب قطع العضو المتآكل متى غلب على الظّنّ أنّه إن لم يقطع سرى إلى الجسد، وكان سبب الهلاك) [الروض الباسم لابن الوزير - (1/71)].
وقد أشار إلى هذه العلة ايضا ابن حزم فقال :
(ويقال لهم ما تقولون في سلطان جعل اليهود أصحاب أمره والنصارى جنده وألزم المسلمين الجزية وحمل السيف على أطفال المسلمين وأباح المسلمات للزنا وحمل السيف على كل من وجد من المسلمين وملك نساءهم وأطفالهم وأعلن العبث بهم وهو في كل ذلك مقر بالإسلام معلن به لا يدع الصلاة ؟
فإن قالوا : لا يجوز القيام عليه، قيل لهم أنه لا يدع مسلما إلا قتله جملة وهذا إن ترك أوجب ضرورة أن لا يبقى إلا هو وحده وأهل الكفر معه !
فإن أجازوا الصبر على هذا خالفوا الاسلام جملة وانسلخوا منه وإن قالوا بل يقام عليه ويقاتل وهو قولهم قلنا لهم فان قتل تسعة أعشار المسلمين أو جميعهم إلا واحد منهم وسبى من نسائهم كذلك وأخذ من أموالهم كذلك فان منعوا من القيام عليه تناقضوا وان أوجبوه سألناهم عن أقل من ذلك ولا نزال نحطهم إلى أن نقف بهم على قتل مسلم واحدا أو على امرأة واحدة أو على أخذ مال أو على انتهاك بشرة بظلم فان فرقوا بين شيء من ذلك تناقضوا وتحكموا بلا دليل وهذا مالا يجوز وان أوجبوا إنكار كل ذلك رجعوا إلى الحق) اهـ [الفصل في الملل والأهواء والنحل - (4 / 135)].
وهذه الاحتمالات التي ذكر ابن حزم تبين أن القول بإطلاق منع الخروج على أهل الجور قد يكون ذريعة لتحمل المفاسد العظيمة التي ما شرع الصبر على جور الأئمة إلا لتفاديها .
إذا تقرر هذا فإن الحكام في زماننا ارتكبوا كل الأسباب المبيحة للخروج على الحاكم .
الوجه الرابع :
نحن ننطلق من مبدأ أن هؤلاء الحكام كفرة مرتدون لعلتين :
الأولى: تبديلهم لشرع الله وامتناعهم عن تطبيق الشريعة وقد انعقد إجماع أهل العلم على مشروعية قتال الممتنعين عن الشريعة.
الثانية: موالاتهم لأعداء الله .
وردة هؤلاء الحكام تبيح الخروج عليهم بإجماع المسلمين .
لما روى البخاري عن جنادة بن أبي أمية قال :
( دخلنا على عبادة بن الصامت وهو مريض قلنا أصلحك الله حدث بحديث ينفعك الله به سمعته من النبي صلى الله عليه وسلم قال : دعانا النبي صلى الله عليه وسلم فبايعناه فقال فيما أخذ علينا أن بايعنا على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا وعسرنا ويسرنا وأثرة علينا وأن لا ننازع الأمر أهله إلا أن تروا كفرا بواحا عندكم من الله فيه برهان).
قال ابن حجر رحمه الله عن الحاكم:
( وملخّصه أنه ينعزل بالكفر إجماعاً، فيجب على كل مسلم القيام بذلك، فمن قوي على ذلك فله الثواب ومن داهن فعليه الإثم، ومن عجز وجبت عليه الهجرة من تلك الأرض).
وإذا كان الخروج عليهم بالسلاح والقتال مشروعا، فلا شك في مشروعية إسقاطهم بما دون ذلك من وسائل .
فمشروعية القتال دالة من باب أحرى على مشروعية التظاهر .
***
0 التعليقات
إرسال تعليق