الشبهة الثانية :
استدل هؤلاء المانعون للمظاهرات بما رواه مسلم من طريق معاوية بن سلام، عن زيد بن سلام، عن أبي سلام، قال: قال: حذيفة بن اليمان:
( قلت: يا رسول الله، إنا كنا بِشرّ، فجاء الله بخير، فنحن فيه، فهل من وراء هذا الخير شر؟ قال: "نعم"، قلت: هل وراء ذلك الشر خير؟ قال: "نعم"، قلت: فهل وراء ذلك الخير شر؟ قال: "نعم"، قلت: كيف؟ قال: " يكون بعدي أئمة لا يهتدون بهداي، ولا يستنون بسنتي، وسيقوم فيهم رجال، قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنس"، قال: قلت: كيف أصنع يا رسول الله إن أدركت ذلك؟ قال: "تسمع وتطيع للأمير، وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك فاسمع وأطع" ).
قالوا :وإذا كان الأمير الذي يضرب الظهر ويأخذ المال يجب السمع والطاعة له فمعنى ذلك أنه يحرم التظاهر ضده .
والرد على هذه الشبهة من وجوه :
الوجه الأول :
أن لفظة : (تسمع وتطيع للأمير، وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك فاسمع وأطع) لم ترد إلا من طريق مرسل .
قال النووي :
( قال الدارقطني: هذا عندي مرسل، لأن أبا سلام لم يسمع حذيفة وهو كما قال الدارقطني، لكن المتن صحيح متصل بالطريق الأول "أي طريق أبي إدريس الخولاني عن حذيفة" وإنما أتي بهذا متابعة كما ترى.) [شرح مسلم للنووي : 12/237 – 238 ].
ورواية أبي إدريس التي أشار إليها النووي أوردها مسلم فقال :
(حدثني محمد بن المثنى حدثنا الوليد بن مسلم حدثنا عبد الرحمن بن يزيد بن جابر حدثني بسر بن عبيد الله الحضرمي أنه سمع أبا إدريس الخولاني يقول سمعت حذيفة بن اليمان يقول :
كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني فقلت يا رسول الله إنا كنا في جاهلية وشر فجاءنا الله بهذا الخير فهل بعد هذا الخير شر قال نعم فقلت هل بعد ذلك الشر من خير قال نعم وفيه دخن قلت وما دخنه قال قوم يستنون بغير سنتي ويهدون بغير هديي تعرف منهم وتنكر فقلت هل بعد ذلك الخير من شر قال نعم دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها فقلت يا رسول الله صفهم لنا قال نعم قوم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا قلت يا رسول الله فما ترى إن أدركني ذلك قال تلزم جماعة المسلمين وإمامهم فقلت فإن لم تكن لهم جماعة ولا إمام قال فاعتزل تلك الفرق كلها ولو أن تعض على أصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك).
وهذه الرواية أصح، وكما هو واضح لم ترد فيها لفظة "تسمع وتطيع للأمير، وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك"
الوجه الثاني :
على فرض صحة هذه اللفظة "تسمع وتطيع للأمير، وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك"
فهي في حق الإمام الشرعي الذي استجمع شروط الإمامة وثبتت له .
لأن الأمير وصف شرعي ولا ينبغي إسقاط أحكام الإمارة إلا على من استجمع شروط الإمارة وكانت إمارته شرعية .
ويشهد لذلك لفظ الحديث عند أحمد في مسنده وعبد الرزاق في المصنف :
(قال ثم تنشأ دعاة الضلالة فإن كان لله يومئذ في الأرض خليفة جلد ظهرك وأخذ مالك فالزمه وإلا فمت وأنت عاض على جذع شجرة).
قال ابن حجر :
(زاد في رواية أبي الأسود تسمع وتطيع وان ضرب ظهرك وأخذ مالك وكذا في رواية خالد بن سبيع عند الطبراني فان رأيت خليفة فالزمه وان ضرب ظهرك فان لم يكن خليفة فالهرب) [فتح الباري - ابن حجر - (13 / 36)].
فالحديث إذن لا ينسحب على زعماء العصابات الذين يحكمون بلاد الإسلام اليوم ويوالون أعداء الله ويعطلون شريعة الله .
فالتخلص من هذا النوع من الحكام عبادة، وطاعتهم إثم ومعصية وتعاون معهم على الإثم والعدوان .
الوجه الثالث :
على فرض صحة هذا اللفظ : "تسمع وتطيع للأمير، وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك " فالمقصود منه النهي عن الخروج بالسلاح على الإمام الشرعي بسبب ظلمه وجوره .
وقد دلت النصوص على أنّ السّلطان قد يكون جائراً في بعض الأمور والأحيان ومن ذلك الحديث المرفوع: ((وإنّما الإمام جنّة يتّقى بها ويقاتل من ورائه، فإن عدل كان له بذلك أجراً، وإن جار كان عليه بذلك وزر)) رواه البخاري .
فليس معنى الحديث وجوب طاعتة الإمام في كل شيء وحرمة الاعتراض عليه بصفة مطلقة ..
فمن المعلوم أنه لا طاعة له في المعصية ويشهد لذلك ما رواه البخاري عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
( السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحب وكره ما لم يؤمر بمعصية فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة ).
وليس معناه أيضا النهي عن مطالبة الأمير بأداء الحقوق ورفع المظالم فهذا حق ثابت للرعية
ومن الأدلة على ذلك :
1- عن أبي فراس [ الربيع بن زياد] قال : خطبنا عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، فقال في خطبته : «إني لم أبعث عمالي ليضربوا أبشاركم، ولا ليأخذوا أموالكم، فمن فعل به ذلك فليرفعه إلي، أقصه منه»، فقال عمرو بن العاص : «لو أن رجلا أدب بعض رعيته، أتقصه منه ؟» قال : «إي والذي نفسي بيده، إلا أقصه، وقد رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أقص من نفسه».أخرجه أبو داود .
2- عن أسيد بن حضير قال :
(بينما هو يحدث القوم وكان فيه مزاح بينا يضحكهم فطعنه النبي صلى الله عليه وسلم في خاصرته بعود فقال أصبرني (أي أقدني) فقال اصطبر (أي اقتص) قال إن عليك قميصا وليس علي قميص فرفع النبي صلى الله عليه وسلم عن قميصه فاحتضنه وجعل يقبل كشحه قال إنما أردت هذا يا رسول الله) رواه أبو داود .
فتمكين النبي صلى الله عليه وسلم لهذا الصحابي الجليل أن يقتص منه دليل على مشروعية مطالبة الإمام بأداء الحقوق التي عليه .
3- روى البخاري عن جابر بن سمرة قال :
(شكا أهل الكوفة سعدا إلى عمر رضي الله عنه فعزله واستعمل عليهم عمارا فشكوا حتى ذكروا أنه لا يحسن يصلي فأرسل إليه فقال يا أبا إسحاق إن هؤلاء يزعمون أنك لا تحسن تصلي قال أبو إسحاق أما أنا والله فإني كنت أصلي بهم صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أخرم عنها أصلي صلاة العشاء فأركد في الأوليين وأخف في الأخريين قال ذاك الظن بك يا أبا إسحاق فأرسل معه رجلا أو رجالا إلى الكوفة فسأل عنه أهل الكوفة ولم يدع مسجدا إلا سأل عنه ويثنون معروفا حتى دخل مسجدا لبني عبس فقام رجل منهم يقال له أسامة بن قتادة يكنى أبا سعدة قال أما إذ نشدتنا فإن سعدا كان لا يسير بالسرية ولا يقسم بالسوية ولا يعدل في القضية قال سعد أما والله لأدعون بثلاث اللهم إن كان عبدك هذا كاذبا قام رياء وسمعة فأطل عمره وأطل فقره وعرضه بالفتن. وكان بعد إذا سئل يقول شيخ كبير مفتون أصابتني دعوة سعد .
قال عبد الملك فأنا رأيته بعد قد سقط حاجباه على عينيه من الكبر وإنه ليتعرض للجواري في الطرق يغمزهن ).
وروي أن أهل الكوفة لما قدموا يشكون أميرهم سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال عمر : "من يعذرني من أهل الكوفة إن وليتهم التقي ضعفوه وإن وليتهم القوي فجروه " فقال المغيرة بن شعبة: "يا أمير المؤمنين إن التقي الضعيف له تقواه وعليك ضعفه وإن القوي الفاجر لك قوته وعليه فجوره، قال: "صدقت، أنت القوي الفاجر فاخرج إليهم".
ومحل الشاهد أن الناس كانوا يشكون أمراءهم ولا يعتبر ذلك خروجا ولا مروقا من الطاعة .
4- عن سمرة بن جندب - رضي الله عنه - : أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال : «المسائل كدوح يكدح بها لرجل وجهه، فمن شاء أبقى على وجهه، ومن شاء تركه، إلا أن يسأل الرجل ذا سلطان، أو في أمر لا يجد منه بدا» أخرجه أبو داود والنسائي والترمذي.
وإنما شرع سؤال السلطان لأنه مطالبة بحق لا مجرد سؤال .
5- روى مسلم في صحيحه عن موسى بن علي عن أبيه قال :
(قال المستورد القرشي عند عمرو بن العاص سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "تقوم الساعة والروم أكثر الناس"، فقال له عمرو أبصر ما تقول قال أقول: ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم .
قال : لئن قلت ذلك إن فيهم لخصالا أربعا : إنهم لأحلم الناس عند فتنة وأسرعهم إفاقة بعد مصيبة وأوشكهم كرة بعد فرة وخيرهم لمسكين ويتيم وضعيف وخامسة حسنة جميلة وأمنعهم من ظلم الملوك) .
فثناء هذا الصحابي الجليل على هؤلاء الروم لامتناعهم من ظلم الملوك دليل على أن ذلك ليس مخالفا للسمع والطاعة المأمور به، والامتناع من الظلم أمر محمود على كل حال كما قال تعالى : {والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون} وهذا أمر عام لا مخصص له .
***
وأيضا ليس معنى رواية "تسمع وتطيع للأمير، وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك " ترك الإنكار على الحاكم .
ومن الأدلة على ذلك :
1- روى مسلم عن عبد الله بن مسعود :
(أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته ويقتدون بأمره ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون ويفعلون ما لا يؤمرون فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل).
2- عن قيس بن أبي حازم عن أبي بكر الصديق أنه قال :
أيها الناس إنكم تقرءون هذه الآية :{ يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم }وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه) رواه ابو داود والترمذي .
3- قال ابن رجب الحنبلي :
(وقد روي عن الإمام أحمد أنه قيل له : أن عبد الوهاب الوارق ينكر كذا وكذا، فقال : لا نزال بخير ما دام فينا من ينكر . ومن هذا الباب قول عمر لمن قال له اتق الله يا أمير المؤمنين فقال : " لا خير فيكم إن لم تقولها لنا، ولا خير فينا إذا لم نقبلها منكم " . وردت عليه امرأة قولته فرجع إليها وقال : " رجل أخطأ وامرأة أصابت " .) [الحكم الجديرة بالإذاعة - (1 / 17)].
***
0 التعليقات
إرسال تعليق