تفنيد الشبهات حول المظاهرات
ولما كان الأصل في هذه المظاهرات هو الإباحة لأنها غير داخلة في العبادات وإنما هي من باب الوسيلة إلى المشروعات ..كان من المهم الإشارة إلى ما نسجه بعض المانعين لها من خيوط الشبهات وفاسد المقولات ..
وهذا بيانها مع الرد عليها :
الشبهة الأولى :
قولهم : التظاهر بدعة ومخالف لمنهج السلف حيث لم يؤثر أنهم تظاهروا .
وهم بهذا الكلام يحاولون تصوير التظاهر ضد هؤلاء الحكام بأنه من أعمال البدع والمحدثات، والرد على هذا الكلام من عدة وجوه :
الوجه الأول :
قد حدثت صورة من التظاهر في زمن الني صلى الله وأدّت مفعولها ولم ينكرها النبي صلى الله عليه وسلم :
عن إياس بن عبد الله بن أبي ذباب - رضي الله عنه - : قال : قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : «لا تضربوا إماء الله، فجاء عمر إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال : ذئرن النساء على أزواجهن، فرخص في ضربهن، فأطاف بآل رسول الله نساء كثير يشكون أزواجهن، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : لقد طاف بآل محمد نساء كثير يشكون أزواجهن ليس أولئك بخياركم». أخرجه أبو داود.
ومن زعم أن هذا لا دليل فيه على التظاهر فليبين لنا الفرق بينه وبين التظاهر .
الوجه الثاني :
أن مجرد ترك النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والسلف لفعل لا يعني ذلك بالضرورة أنه محرم أو أنه بدعة ما لم يقم على ذلك دليل .
لأنه قد يكون مباحا ولا يفعلونه لعدم وجود الباعث على فعله .
وقد يكون مباحا ويوجد الباعث على فعله ولا يفعلونه لعجزهم عن فعله أو لأن الظروف لم تتهيأ لفعله .
ولهذا كان من تعاريف البدعة أنها :
"كل عمل وجد مقتضي فعله في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ولم يفعله مع إمكان فعله" .
ومثال ذلك عيد المولد فمقتضاه الباعث عليه هو توقير النبي صلى الله عليه وسلم وإحياء ذكرى ميلاده، وقد كان هذا المقتضى موجودا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وزمن الخلفاء الراشدين ومن بعدهم، ولم يفعلوه مع إمكان فعله، فدل ذلك على أنه بدعة غير مشروعة .
ومن هنا تدخل المصالح المرسلة التي يتجدد مقتضى وجودها بعد أن كان معدوما، وقد عمل الصحابة رضي الله عنهم ببعض المصالح المرسلة التي لم يكن معمولا بها في زمن النبي صلى الله عليه وسلم .
قال الشيخ سيدي عبد الله في المراقي في معرض الحديث عن المصالح المرسلة:
نقبله لعمل الصحابة *** كالنقط للمصحف والكتابة
تولية الصديق للفاروق *** وهدم جار مسجد للضيق
وعمل السكة تجديد الندا *** والسجن، تدوين الدواوين بدا
ولو قلنا بحرمة كل ما لم يحدث في عصر الصحابة والتابعين لاقتضى ذلك منا تحريم الكثير من الأمور المشروعة التي لم تحدث في عصرهم.
مثال ذلك : وضع الفاصل بين الرجال والنساء في المساجد وفي الدروس فلا شك في مشروعية هذا الأمر لما يحققه من دفع الفتنة وذلك مقصد من مقاصد الشرع ،ومع ذلك فإن هذا الفاصل لم يحدث في زمن الصحابة والتابعين فهل يقال بانه بدعة ؟!
ومثال ذلك أيضا : الهيئات الدينية والمجامع الفقهية التي تصدر الفتاوى الجماعية فمثل هذه الهيئات لم يكن موجودا زمن النبي صلى الله عليه وسلم ولم يعمل بها السلف .
ومن الأدلة على مشروعية العمل بكل ما قام مقتضاه وإن لم يعمل به في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ما رواه البخاري عن عبد الله بن يوسف قال أخبرنا مالك عن يحيى بن سعيد عن عمرة عن عائشة رضي الله عنها قالت :
(لو أدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أحدث النساء لمنعهن كما منعت نساء بني إسرائيل. قلت لعمرة أومنعن قالت نعم.
قال الحافظ ابن حجر :
(تشير عائشةُ - رضي الله عنها - إلى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يرخص في بعض ما يرخص فيه حيث لم يكن في زمنه فسادٌ، ثم يطرأ الفساد ويحدث بعده، فلو أدرك ما حدث بعده لما استمر على الرخصه، بل نهى عنه ؛ فإنه إنما يأمرُ بالصلاح، وينهى عن الفساد وشبيهٌ بهذا : ما كان في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وعهد أبي بكرٍ وعمر من خروج الإماء إلى الأسواق بغير خمارٍ حتى كان عمر يضرب الأمة إذا رآها منتقبةً أو مستترةً، وذلك لغلبة السلامه في ذلك الزمان، ثم زال ذلك وظهر الفساد وانتشر، فلا يرخص حينئذٍ فيما كانوا يرخصون فيه . ) [فتح الباري ـ لابن رجب - (5 / 308)].
ثم نقل ابن حجر عن الإمام أحمد قوله : أكره خروجهن في الزمان ؛ لأنهن فتنتةٌ .
الوجه الثالث :
أنه في مجال البدعة ومخالفة السلف ينبغي التفريق بين أمرين :
البدعة في مجال الأمور التعبدية والبدعة في مجال الأمور الدنيوية ..
فالأمور التعبدية مبنية على التوقف فلا يجوز العمل بشيء حتى يثبت له دليل .
والأمور الدنيوية او العادية مبنية على الإباحة فلا تمنع حتى يرد الدليل على المنع .
وقد عرف الشاطبي البدعة بأنها :
"طريقة في الدين مخترعة، تضاهي الطريقة الشرعية، يقصد بالسلوك عليها ما يقصد بالطريقة الشرعية"." [الاعتصام" (1/51)].
ونصت اللجنة الدائمة في السعودية على ضرورة التفريق بين البدعة الدينية والبدعة الدنيوية، حيث جاء في الفتوى رقم 7721 :
(الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه . . وبعد:
البدعة تنقسم إلى بدعة دينية وبدعة عادية، فالعادية مثل كل ما جد من الصناعات والاختراعات والأصل فيها الجواز إلا ما دل دليل شرعي على منعه .
أما البدعة الدينية فهي كل ما أحدث في الدين مضاهاة لتشريع الله كالأذكار الجماعية بصوت واحد وكبدع الموالد وبدع الاحتفال بنصف شهر شعبان والسابع والعشرين من رجب وبليلة الأربعين من وفاة الميت وقراءة القرآن للأموات على القبور إلى أمثال ذلك مما لا يحصى عدا . .......) اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
وقال الشيخ الألباني :
(ومن الإفراط مثلاً: أن بعض الناس ينكرون -ممن لم يعتادوا- الأكل بالملعقة؛ فهذه ليس لها علاقة بالدين، لماذا تنكر؟
رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أكل بالملعقة صحيح، ورسول الله ما ركب السيارة، ولا الطيارة إلخ، فهل يقول الإنسان: إن هذه بدعة؟ البدعة تكون في الدين، أما أن تأكل بالملعقة، أو تركب الطيارة ولا تركب الدابة، وما شابه ذلك، فهذه كلها من أمور الدنيا، وقد تساعدنا أيضاً -كما قلنا- مثل هذه الوسيلة على القيام ببعض الواجبات التي ربما لا نستطيع أن نقوم بها في هذا الزمان بدونها.
المهم يجب أن نفرق بين البدعة في الدين، والبدعة في الدنيا ونلخص هذا الموضوع الطويل بالآتي: البدعة تنقسم -أي: الشيء الذي حدث- إلى قسمين: إما أن يكون لها علاقة بالدين، أو يكون لها علاقة بالدنيا.) دروس للشيخ الألباني – البدعة وأسئلة حولها (28 / 8)
الوجه الرابع :
العلماء عندما تحدثوا عن الأدلة الشرعية حصروها في أربعة أشياء :
1- الكتاب
2- السنة
3- الإجماع
4- القياس .
ولم يذكروا أن عمل السلف وقولهم يعتبر دليلا مستقلا، بل إنه يعتبر مفسرا للأدلة الشرعية وذلك يقتضي أمرين :
الأول : أن نفهم النصوص الشرعية وفق فهمهم ولا نخالفهم في تأويلها .
الثاني : ألا نترك ما أجمعوا على وجوبه ولا نفعل ما أجمعوا على حرمته ونبحث عن الراجح في ما اختلفوا فيه .
وليس تركهم للشيء دليلا على أنه ممنوع إلا في العبادات لأنها مبنية على التوقيف والأتباع ممنوعة من الإحداث والإبتداع .
0 التعليقات
إرسال تعليق