ومن الأمثلة في التاريخ ما رواه ابن الجوزي بإسناده أن المأمون قال : ( لولا يزيد بن هارون لأظهرت أن القرآن مخلوق فقال بعض جلسائه : يا أمير المؤمنين ، ومن يزيد حتى يُتقى ؟ ، قال ويحك ، إني أخاف أن يرد علي ، فيختلف الناس وتكون فتنة ، وأنا أكره الفتنة ، فقال له الرجل : فأنا أخبر لك ذلك منه ، فقال له : نعم ، قال : فخرج إلى واسط ، فجاء إلى يزيد بن هارون ، فدخل عليه المسجد ، وجلس إليه فقال له : يا أبا خالد إن أمير المؤمنين يقرئك السّلام ويقول لك إني أريد أن أظهر أن القرآن مخلوق فقال : كذبت على أمير المؤمنين ، أمير المؤمنين لا يحمل الناس على ما لا يعرفون ، فإن كنت صادقاً فعد غداً إلى المجلس ، فإذا اجتمع الناس فقل ، قال : فلما كان الغد اجتمع الناس فقام ، فقال : يا أبا خالد ، رضي الله عنك ، إن أمير المؤمنين يقرئك السّلام ويقول لك : ( إني أريد أن أظهر أن القرآن مخلوق ، فما عندك في ذلك ؟ قال : كذبت في ذلك على أمير المؤمنين ، أمير المؤمنين لا يحمل الناس على ما لا يعرفونه وما لم يقل به أحد ، قال : فقدم فقال : يا أمير المؤمنين ، كنت أنت أعلم ، قال : وكان من القصة كيت وكيت ، فقال له : ويحك ، لعب بك ) ( المنتظم 10/158) .
وقوله : ( أنا أخبر لك ذلك منه ) يقصد به أرى إن كان الإمام يزيد بن هارون سيستعمل قدرته على التأثير على الرأي العام ضد السلطة فيما لو أظهرت هذا القول ، أم سوف يكون إنكاره لها رأياً شخصياً بيننا وبينه فقط أو سوف يُؤثِر السكـوت ، أو نحو ذلك مما سيكون تأثيره محدوداً .
وفي هذه القصة أن الإمام يزيد بن هارون أراد أن يبلغ السلطة أنه سوف يستفيد من تأثيره على الرأي العام لتحجيمها ومنعها من استغلال موقعها لفرض آرائها الفكرية الخاطئة ، ولهذا دعا رسول الخليفة أمام الناس ليشهدهم على موقفه ، ويكون في ذلك إشارة واضحة للسلطة لتكف عما تخطط له ، ولم يكتف رحمه الله بذكر ذلك فيما بينه وبين مندوب السلطة خاصة ، وهو يدل على قيام العلماء في ذلك الزمان برسالتهم ووعيهم الوسائل الكفيلة بتحقيق أهدافها .
وقد روى لنا التاريخ أيضاً هذه القصة الطريفة :
جاء في حسن المحاضرة : ( أنه كان بمصر مغنية تدعى عجيبة ، أولع بها الملك الكامل ، فكانت تحضر إليه ليلاً ، وتغنيه في مجلس ابن شيخ الشيوخ وغيره ، فاتفقت قضية شهد فيها الملك الكامل عنده ، وهو في دست ملكه ، فقال القاضـي عبد الله بن الصفراوي الملقب بعين الدولة ، هذا السلطان يأمر ، ولا يشهد ، فأعاد عليه القول ، فلما زاد الأمر ، وفهم السلطان أنه لا يقبل شهادته ، قال : أنا أشهد ، تقبلني أم لا ؟ فقال القاضي : لا ، ما أقبلك وعجيبة تطلع إليك كل ليلة ، وتنزل ثاني يوم بكره ، وهي تتمايل سكرى على أيدي الجواري ، وينزل ابن الشيخ من عندك ، فقال له السلطان : يا كبواج ! وهي كلمة شتم بالفارسيـة ، فقال القاضي : ما في الشرع يا كبواج ! اشهدوا عليّ أني قد عزلت نفسي ، ونهض ، فقام ابن الشيخ إلى الملك الكامل ، فقال له : المصلحة إعادته ، لئلا يقال لأي شيء عزل القاضي نفسه ، وتطير الأخبار إلى بغداد ، ويشيع أمر عجيبة ، فنهض الكامل إلى القاضي وترضاه ) عن حاشية كتاب رفع الصر لمحققه 2/302، ويستفاد من القصة أن القاضي استعمل أثر الرأي العام لتحجيم السلطـة ومنعها من التدخل في القضاء والتعسف في استعمال موقعها لإضاعة حقوق العباد ، ويمكن أن يستفاد من هذه القصــة استعمال وسيلة الإضراب عن العمل للضغط على السلطة بغية إلزامها بالحق وعدم التدخل للتأثير على القضاء ضد الشريعة .
وفي الجملة فالأمثلة كثيرة ، وعلماء الإسلام لم يغفلوا عن أي وسيلة تمكنهم من منع السلطة من التعسف في استعمــال أدواتها للالتفاف على الشريعة الإسلامية التي تمثل ثوابت الأمة التي لا تقبل الالتفاف عليها بوجه من الوجوه ، لأن كيان الأمة أصلاً مبني على إقامة الشريعة الإسلامية وبدونها تضيع هويتها وتسلب مكانتها وتتهاوى هيبتها .
0 التعليقات
إرسال تعليق