القول على الله بغير علم ..
لقد دلت الأدلة من الكتاب والسنة على أنه لا يجوز لأحد أن ينسب الحكم إلى الله تعالى ويصرح بالتحريم أو التحليل إلا مع وجود النصوص الظاهرة والأدلة البينة .
وما لم تقم هذه الأدلة فلا ينبغي لأحد أن ينسب الحكم إلى الله عز وجل .
وقد دل على ذلك الكتاب والسنة :
الأدلة من الكتاب :
1- قال تعالى : {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف : 33]
2- قال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَاماً وَحَلالاً قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ} [يونس:59]
3- قال تعالى: {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ} [النحل:116]،
4- قال تعالى: {قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا} [الأنعام:150].
الأدلة من السنة :
عن سليمان بن بريدة عن أبيه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمّر أميراً على جيش أو سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيرا ثم قال: "اغزوا باسم الله، في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله" الحديث.
وفيه: "وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تنزلهم على حكم الله فلا تنزلهم على حكم الله، ولكن أنزلهم على حكمك فإنك لا تدري، أتصيب حكم الله فيهم أم لا" . رواه مسلم في صحيحه.
قال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي تعليقا على هذا الحديث :
(وفيه النهي الصريح من النبي صلى الله عليه وسلم عن نسبة حكم إلى الله، حتى يعلم بأن هذا حكم الله الذي شرعه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، ولأجل هذا كان أهل العلم لا يتجرؤون على القول بالتحريم والتحليل إلا بنص من كتاب الله أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم.) [أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن - (7 / 348)]
وقد كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لا ينسبون الحكم إلى الله تعالى أو إلى النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان من اجتهادهم وإنما ينسبونه إلى أنفسهم؛ ومن أمثلة ذلك:
- عن أبي هريرة قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كسب الحجام وكسب البغي وثمن الكلب قال وعسب الفحل قال وقال أبو هريرة هذه من كيسي) مسند أحمد - (13 / 355)
- وعن عبد الله بن عتبة قال أتى ابن مسعود في رجل تزوج امرأة فمات عنها ولم يفرض لها ولم يدخل بها فسئل عنها شهرا فلم يقل فيها شيئا ثم سألوه فقال أقول فيها برأيي فإن يك خطأ فمني ومن الشيطان وإن يك صوابا فمن الله لها صدقة إحدى نسائها ولها الميراث وعليها العدة فقام رجل من أشجع فقال أشهد لقضيت فيها بقضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم في بروع ابنة واشق) مسند أحمد - (30 / 406)
وكان هذا هو دأب السلف رضي الله عنهم فكانوا حريصين على عدم إطلاق وصف التحريم والتحليل إلا فيما دلت عليه الأدلة البينة .
قال الأعمش : « ما سمعت إبراهيم يقول قط : حلال ولا حرام ،إنما كان يقول : كانوا يكرهون، وكانوا يستحبون » سنن الدارمي .
وقال ابن عبد البر :
1090- حدثنا عبد الوارث بن سفيان، قال: حدثنا قاسم بن أصبغ، قال: حدثنا ابن وضاح، قال: حدثنا يوسف بن عدي، قال: حدثنا عبيدة بن حميد، عن عطاء بن السائب، قال: قال الربيع بن خيثم، إياكم أن يقول الرجل لشيء: إن الله حرم هذا أو نهى عنه، فيقول الله: كذبت لم أحرمه ولم أنه عنه.
قال: أو يقول: إن الله أحل هذا وأمر به، فيقول: كذبت لم أحله ولم آمر به.
- وذكر ابن وهب وعتيق بن يعقوب، أنهما سمعا مالك بن أنس، يقول: لم يكن من أمر الناس ولا مَن مضى من سلفنا ولا أدركت أحدا أقتدي به يقول في شيء: هذا حلال، وهذا حرام، ما كانوا يجترئون على ذلك، وإنما كانوا يقولون: نكره هذا ونرى هذا حسنا، ونتقي هذا، ولا نرى هذا، وزاد عتيق بن يعقوب، ولا يقولون: حلال ولا حرام، أما سمعت قول الله، عز وجل: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ} [يونس: 59] الحلال: ما أحله الله ورسوله، والحرام: ما حرمه الله ورسوله .
- قال أبو عمر: معنى قول مالك هذا: إن ما أخذ من العلم رأيا واستحسانا لم نقل فيه حلال ولا حرام، والله أعلم.
- وقد روي عن مالك أنه قال في بعض ما كان ينزل فيسأل عنه فيجتهد فيه رأيه: إن نظن إلا ظنا وما نحن بمستيقنين.
- ولقد أحسن أبو العتاهية حيث قال:
وما كل الظنون تكون حقا ولا كل الصواب على القياس) [جامع بيان العلم وفضله - (2 / 286)].
وقال الشاطبي في الاعتصام :
(وأما المتقدمون من السلف فإنهم لم يكن من شأنهم فيما لا نص فيه صريحاً أن يقولوا : هذا حلال وهذا حرام . ويتحامون هذه العبارة خوفاً مما في الآية من قوله : "ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب" وحكى مالك عمن تقدمه هذا المعنى . فإذا وجدت في كلامهم في البدعة أو غيرها : أكره هذا، ولا أحب هذا، وهذا مكروه .) [الاعتصام للشاطبي - (1 / 353)].
وقال ابن القيم :
(ولكن لا يجوز أن يقول لما أداه إليه اجتهاده ولم يظفر فيه بنص عن الله ورسوله إن الله حرم كذا وأوجب كذا وأباح كذا وإن هذا هو حكم الله) [إعلام الموقعين - (1 / 44)].
وفي هذا دليل على مجازفة من أفتى بحرمة المظاهرات بلا أدلة شرعية .
ونحن إنما صرحنا بمشروعيتها حملا على الأصل الذي هو الإباحة وسنذكر إن شاء الله الأدلة على صحة هذه القاعدة .
0 التعليقات
إرسال تعليق